'..وهكذا تصبح قوانين هذه الدولة مطوّعة في خدمة طبقة الأثرياء، ومرفقة بكلّ أنواع الاعوجاج، وهذا ما يجعل من فكرة '"الديمقراطيّة'" والّتي تفترض تحقيق إرادة الأكثريّة، مجرّد وهم يخيّل للمواطنين مشاركتهم في سنّ القوانين والشرائع، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على أنّ المواطن في ظلّ النّظام الأوليغارشيّ لا يعدو كونه ضحيّة، ضحيّة الأوهام الّتي تصوّرها له مسمّيات الحكم بالدّرجة الأولى، وضحيّة قرارات الحكّام بالدّرجة الثّانية'""
'عن الفلسفة، ومعاينة أرسطو للنّموذج'""
ليس باستطاعتي مقاومة إغواء الكلام عن سذاجة مقولة "انتهاء الفلسفة"، لأنّ الفلسفة بوصفها "مفاهيمَ" تحدّد مقاصدنا، وتسمح لنا بصوغ رؤية عامّة للحياة، والانسان، والمجتمع، وغيرها من المفاهيم الّتي لا يمكن التّلفّظ بحرف واحد دون تكوين موقف منها، مثل، ما هو الحسن؟، وما الجميل؟، وما العادل؟، لا يمكن للانسان تفاديها أو الفرار منها بما هو "ناطق"، فضلًا عن كونه مفكّرا، والنّتيجة أنّ من ينكر حاجتنا للفلسفة، فإنّه يمارس حقّه الذّي لا يمكن ممارسته إلّا بإخفاء فلسفة "لاشعوريّة" تقوّم أقواله. من جهة أخرى، فإنّ بعض ما نواجهه في اليوميّ، يثوّر فروعا في الفلسفة ويعيد إليها حيويّتها، ويكشف احتياجنا للتفلسف في أمور كثيرة. ولهذا نجد أن الفلسفة لازمت وجود الانسان في هذا العالم، وكانت الكهف الّذي يُلجئه عندما ينزع لمعرفة الأسباب والمعايير. لكنّ الفلسفة لا تعامَل زمانيّا معاملة العلم، هي ليست تراكما من قبيل أن ما قاله أينشتاين المتأخر عن نيوتن، أشمل مما قدّمه الأخير، إذ أن الفلاسفة لم يتفّق لهم أن اعترفوا بمنهجيّة مشتركة لحل المسائل الفلسفيّة، لذا كان من الممكن أن نجد أحدهم يصدّق أفلاطون، ويعتبر أنّ أكبر سقطة فلسفيّة كانت مع إيمانويل كانط الذي جعل الانسان مسؤولا عن الميزات البنيويّة لعالم قابل للمعرفة، على الرّغم من أن أفلاطون متقدّم عن كانط بقرون كثيرة. ولعلّ هذه ميزة في الفلسفة، بحيث تسمح لك بالرجوع إلى فلاسفة الماضي الكبار، الأمر الّذي يمكّنك من القبض على طرق تفكيرهم، وأساليب تفكيك القضايا محلّ نظرهم، ولو لم تقبل خلاصة واحدة من خلاصاتهم.
إنّ "تطنيش" أسئلة الفلسفة عصيّ على الانسان، دون الفلسفة لن يقيم قائمة، لهذا أميل للقول أنّ الانسان "يُزجّ" به أمام المسائل الفلسفيّة لا باختياره، الأسئلة الفلسفيّة الّتي لا تقتصر على سؤال الوجود، والله، وغيرها من المسائل التي يظن العامّة أنها ما يعنى به الفيلسوف فقط، بل لا يكاد يخلو فرع من فروع المعارف البشريّة من الفلسفة، من الفيزياء، حتى الاجتماع والسّياسة.
وبما أن للفلسفة هذه السطوة، فلنا أن نطالب الفيلسوف بإيضاح ما سيقدّمه لنا منهجه، لأن لا فائدة من منهج عقيم لا يلقي بآثاره على حياة الفرد مباشرة، وبما أن الفلسفة لا يمكن أن تمارس القطيعة المعرفية مع تاريخها، فإن الاستغاثة بفلاسفة الماضي أمر مبرّر، وهذا قد يسوّغ العودة إلى أوّل من سُميّ "الفيلسوف" أرسطوطاليس، لاستنطاقه بلغة عصريّة تناسب القرن الحالي، بعيدا عن الاجترار المكرور للمفاهيم المغيظة من قبيل "انت تريد العودة بنا إلى القرون الوسطى وما تحمله من آلام".
إن الخلفية العمومية للممارسات الاجتماعية الّتي يستند إليها أرسطو تلقي بظلالها على كافة أطراف فلسفته ومؤلفاته، الأمر الذي يتوافق مع رؤيته القائلة بأفضليّة المدينة على الفرد، والفكرة، هي أننا نحن المفترض أننا سكّان الديمقراطيّات، -سنناقش هذا المفهوم- يجب أن نؤسس لمجتمع منظّم تكون مؤسساته مندمجة بتصوّرات للعدالة الّتي تطال الجميع، ومن هنا، فإنّ بإمكاننا وعلى ضوء فلسفة أرسطوطاليس وتصوّراته للمفاهيم محلّ التّنازع، الحكم على فجوات نموذجنا الحالي، وعلى نقاط عجزه، اجتماعيّا ،اقتصاديّا، وسياسيّا، إذ ان المشكلة التي نواجهها، وعلى الرغم من أننا قليلو الالتفات لهذه المسألة، هي بالدرجة الأولى ناتجة عن عطب في فهم المتصدّين لصوغ الأنظمة وترتيبها، للعدالة.
"قام حكم الأقليّة، لزعم أصحابه أنّهم متفاوتون على وجه الإطلاق، في حال أنّهم متفاوتون في أمر من الأمور فقط، فهم لكونهم متفاوتين في الثّروة، يعتبرون أنفسهم متفوّقين في كلّ شيء،، وهذا اعتقاد فاسد"
أرسطوطاليس، السياسات.
إنّ النقطة التي ينبغي إثارتها هنا، هي فكرة الانفصال عن الديمقراطيّة الّذي تفرضه الرأسماليّة بشكلها الحالي، أي النيوليبرالية. إن حاولنا النّظر عن قرب في مختلف الوسائل الّتي تتمكّن من خلالها الثروات المتراكمة أن توسّع الهوّة الّتي تفصلنا عن الدّيمقراطيّة يمكن صياغة الآتي، إن استحواذ أصحاب الثروات على مقاليد الحكم واقع يفرضه عوز الطّبقات الفقيرة، -إذ ليس باستطاعة الفقير غمر الآخرين من أبناء طبقته بالمساعدات والهبات، والقيام بحملات دعائية ترفد وصوله إلى السلطة-، هذا العوز الّذي يكون في البداية حصيلة تراكم الثّروات في أيد قليلة، وهكذا تصبح قوانين هذه الدولة مطوّعة في خدمة طبقة الأثرياء، ومرفقة بكلّ أنواع الاعوجاج، وهذا ما يجعل من فكرة "الديمقراطيّة" والّتي تفترض تحقيق إرادة الأكثريّة، مجرّد وهم يخيّل للمواطنين مشاركتهم في سنّ القوانين والشرائع، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على أنّ المواطن في ظلّ النّظام الأوليغارشيّ لا يعدو كونه ضحيّة، ضحيّة الأوهام الّتي تصوّرها له مسمّيات الحكم بالدّرجة الأولى، وضحيّة قرارات الحكّام بالدّرجة الثّانية، وهكذا يصاب المواطن بإجحاف من غير مسؤوليّة من جهته (باستثناء مسؤولية سحل أولئك الأوغاد في الشوارع التي تقع على عاتقه). ولأجل هذا غالبا ما أشدّد على أنّ شعارات الدّيمقراطيّة لا يمكن أن تجعل حيواتنا أفضل ممّا هي عليه، وأنّ تشييد أصنام التّسميات الجذّابة -الدّيمقراطيّة مثلا- يبدو لي أمرًا يتّصف بالتّفاهة والغرور.
ينطلق تصوّرنا الأرسطي للنّموذج الذي ينبغي تشييده من فكرتين أساسيّتين: الأولى، أن يتوافق هذا النّموذج مع واقع أن يكون كلّ واحد منّا مدينًا لأيّ واحد آخر، وهذا متفرّع من رؤية أرسطو للفرد بما هو جزء من مجتمع، فيترتّب على هذه العلاقة ضرورة المساهمة في تحقيق غايات المجتمع لا الغايات الفرديّة، وغالبا ما أتطرق لمقولة ماركس للإضاءة على هذه النقطة، حيث يقول "من الفرد بحسب القدرة إلى الكلّ بحسب الحاجة"، ويمكن أن يكون توظيف فائض القيمة -الّذي ينتجه العمّال- في سبيل تطوير وتوسيع القطاع العام الذي يعود بالنّفع على كل المواطنين، خير مصداق -صاغه الاشتراكيّون- لهذه القاعدة الأرسطوطاليسيّة في الأساس. والثّانية، أن لا يفتقر إلى ما هو مستحقّ أحد المواطنين، وهذا يرجعنا إلى ضرورة إعادة تأويل مفهوم "الملكيّة" لفضّ التّوتّر الحاصل حوله، لأن ما هو مستحقّ يعلمنا ما هو الشّيء الّذي يكون من العدل أن يمتلكه الأشخاص، فإن ما نملكه من فهم للملكيّة، هو صياغة مفكّري القرن السّابع عشر الليبراليّين، والذّي يعني، بمجرّد تأمّل بسيط، الحق في إقصاء الغير عن قدرة التّصرّف في ثروة ما، أو رأسمال ما، والحال أنّه وفق أدوات أرسطو سيصبح هذا التّصوّر فاسدًا، لأنّ ما يحتاجه المرء للاستكمال، أي لتحقيق كمال ما من جهة ما، هو حقّ للفرد بما هو إنسان فقط، بعيدا عن القيمة المعطاة للانسان في المجتمع الرّأسماليّ، حيث تقاس حقوق الانسان بما هو عامل منتج، والكمال في أدبيّات أرسطو لا يعتني بما عناه تعبير الكمال في سرديّات الأديان فقط، بل يضاف إليه كمال البدن والعقل، حيث تكون الأدوات المنجزة لهذه الكمالات الغذاء، والطّبابة، والتّعليم، وعليه، يفترض أن تكون كلّ هذا الحاجات المتفرعة عن كون الانسان انسانا له خصوصياته التي ينبغي تكميلها، مجّانيّة. وأنّ كلّ انزياح عن أحد الطّرفين المذكورين سيكون بمنزلة الإذلال، وحطام السعادة، وهذا يرجع إلى توجّه أرسطو القائل بضرورة تطبيق الأخلاق على السّياسة، فالسّلوك السّياسي ينبغي أن يراعي الفضيلة، أو بعبارة أخرى، عليه أن يكون عادلا، وانطلاقا من هذه الثّنائية، سنصطدم بواقع عويص ينبغي تفكيكه بعيدا عن الأرجحة بين نظريات النّفعيّة والفردانيّة.
"Related Posts
كاتب لبناني